الأسباب الموجبة لمحبة الله
تعريف المحبة :
اعلم
– رحمك الله – أن المحبة لله عز جل لا تُعرَّف بتعريف أوضح منها ، فالحدود
و التعاريف لا تزيدها إلا خفاءً ، فلا توصف المحبة بوصف أظهر من المحبة.
و من تكلم عن تعريف المحبة إنما تكلم عن علاماتها و شواهدها و تمراتها .
قالوا في المحبة :
قالوا: المحبة هي الميل الدائم بالقلب الهائم .
و قيل : المحبة هي إيثار المحبوب على جميع المصحوب .
و قيل : المحبة هي موافقة الحبيب في المشهد و المغيب.
و
قيل : المحب هو عبدٌ ذاهبٌ عن نفسه ، متصل بذكر ربه ، قائم بأداء حقوقه ،
ناظرٌ إليه بقلبه ، أحرقت قلبه أنوار هيبته ، فإن تكلم فبالله ، و إن نطق
فعن الله ، و إن تحرك فبأمر الله ، و إن سكت فمع الله.
الأسباب الجالبة للمحبة إجمالاً :
قل ابن القيم رحمه الله : الأسباب الجالبة للمحبة و الموجبة لها هي عشرة :
أحدها : قراءة القرآن بتدبر و التفهم لمعانيه و ما أريد به .
الثاني : التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض ، فإنها توصلة إلى درجة المحبوبية بعد المحبة .
الثالث : دوام ذكره على كل حال : باللسان و القلب و العمل و الحال ، فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من الذكر.
الرابع : إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى ، و التسنم إلى محابه و إن صعب المرتقى .
الخامس
: مطالعة القلب لأسمائه و صفاته و مشاهدتها و معرفتها ، و تقلبه في رياض
هذه المعرفة و مباديها ، فمن عرف الله بأسمائه و صفاته و أفعاله : أحبه لا
محالة .
السادس : مشاهدة بره و إحسانه و آلاءه ئه ، و نعمه الظاهرة و الباطنة .
السابع : و هو من أعجبها : انكسار القلب بين يدي الله تعالى ، و ليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء و العبارات .
الثامن
: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته و تلاوة كلامه ، و الوقوف بالقلب و
التأدب بأدب العبودية بين يديه ، ثم ختم ذلك بالاستغفار و التوبة .
التاسع
: مجالسة المحبين و الصادقين ، و التقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقي
أطايب الثمر ، و لا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام ، و علمت أن فيه
مزيداً لكالك و منفعة غيرك .
العاشر : مباعدة كل سبب يحول بين القلب و بين الله عز و جل .
(1) قراءة القرآن
إن
قراءة القرآن العظيم و التدبر في آياته و تفهم معانيها ، لها أثر عظيم في
زيادة محبة العبد لربه عز و جل ، فكلما كانت صلة العبد بهذا القرآن أعظم
كلما ازدادت محبته لربه ، فإن من يحب شيئاً يكثر من ذكره و الحديث عنه ، و
يحب كلامه و كل ما يتعلق به .
و قد ندب الله عز و جل عباده المؤمنين إلى
قراءة العناية بهذا القرآن و التدبر في آياته ، و الاتعاظ بمواعظه ، و
العمل بما فيه ، و حذر من هجره ، في آياتٍ كثيرات من كتابه :
قال تعالى : { و رتل القرآن ترتيلا }
و قال : { إن الذين يتلون كتاب الله و أقاموا الصلاة و أنفقوا مما رزقناهم سراً و علانية يرجون تجارة لن تبور }
و قال سبحانه : { الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به }
و قال عز وجل :{ اتل ما أوحي إليك من الكتاب }
و قال : { أفلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيرا }
و قال عز وجل :{ أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها } محمد 24
و عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم : (( خيركم من علم القرآن و علمه ))
و
عن عائشة رضي الله عنها قالت قال صلى الله عليه و سلم :الماهر بالقرآن مع
السفرة الكرام البررة، و الذي يقرأ القرآن و يتعتع فيه ، و هو عليه شاق له
أجران .
و قال صلى الله عليه و سلم : ((اقرؤوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه ))
و عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال : أوصى ( يعني النبي صلى الله عليه و سلم ) بكتاب الله .
و
عن زيد بن أرقم قال : قام رسول الله صلى الله عليه و سلم فينا خطيباً ،
فحمد الله و أثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال : (( أما بعد أيها الناس فإنما أنا
بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب ، و أن تاركٌ فيكم ثقلين أولهما كتاب
الله )) و رغب فيه ، ثم قال : (( و أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي
أذكركم الله في أهل بيتي )).
(2) التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض
فلا يزال العبد يتقرب إلى الله و يتقرب ، حتى يحبه الله سبحانه ، و يجعله من أوليائه الذين يحبهم و يحبونه .
و في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :
((
إن الله تعالى قالل : من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب ، و ما تقرب
إليَّ عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه ، و ما يزال عبدي يتقرب إلي
بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به و
يده التي يبطش بها و رجله التي يمشي بها و إن سألني أعطيته ، و لئن
استعاذني لأعيذنه )).
(3) دوام ذكر الله على كل حال
و كذلك دوام
ذكر الله عز وجل على كل حال باللسان و القلب و العمل و الحال ، من أسباب
زيادة محبة العبد لربه ، و لذلك فقد حث الله عز و جل على ذكره فقال جل في
علاه : {فاذكروني أذكركم}
و قال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله كثيرا }
و قال تعالى : { و الذاكرين الله كثيراً و الذاكرات أعد الله لهم مغفرةً و أجراً عظيما }
و
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : قال
الله عز وجل : (( أنا عند ظن عبدي بي ، و أنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في
نفسه ذكرته في نفسي ، و إن ذكرني في ملأٍ ذكرته في ملٍ خيرٍ منهم .
و
حث البي صلى الله عليه و سلم كذلك عل ذكر الله تعالى ، و رغب فيه :فعن أبي
موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : (( مثل
الذي يذكر ربه و الذي لا يذكر ربه كمثل الحي و الميت ))
(4) إيثار ما يحبه الله على كل شيءٍ سواه
و
من الأسباب الجالبة لمحبة الله : إيثار ما يحبه الله على كل شيء سواه ،
قال تعالى : { فأما من طغى ، و آثر الحياة الدنيا ، فإن الجحيم هي المأوى ،
و أما من خاف مقام ربه و نهى النفس عن الهوى ، فإن الجنة هي المأوى }
و
قال صلى الله عليه و سلم : (( ثلاثٌ من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن
يكون الله و رسوله أحب إليه مما سواهما ، و أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ،
و أن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه ، كما يكره أن يلقى في
النار )).
(5) مطالعة القلب لأسماء الله و صفاته
و أعظم الأسباب
التي تزيد محبة العبد لربه : مطالعة أسمائه و صفاته و مشاهدتها بعين القلب ،
فإن الله عز و جل أهل لأن يحب بذته ، لأن له جمال الذات و الأسماء و
الصفات و الأفعال .
فمن تأمل صفات الله عز و جل و أسماءه و عاش معها ،
يصل به الأمر إلى حالةٍ كأنه ينظر إلى الرحمن على عرشه مستوياً عليه ،
بائناً من خلقه ، يأمر و ينهى ، و يخلق و يرزق ، و يميت و يحيي ، و يقضي و
ينفذ ، و يعز و يذل ، و يقلب الليل و النهار ، و يداول الأيام بين الناس .
أحاط بكل شيءٍ علما ، و أحصى كل شيءٍ عددا ، ووسع كل شيء رحمة و حكمة .
وسع
سمعه الأصوات ، باختلاف للغات ، على تفنن الحاجات . لا تختلف عليه و لا
تشتبه ، بل يسمع ضجيجها باختلاف لغاتها على كثرة حاجاتها . لا يشغله سمع عن
سمع ، و لا تغلطه كثرة المسائل ، و لا يتبرم بإلحاح ذوي الحاجات . سواء
عنده من أس القول و من جهر به ، و من هو مستخفٍ بالليل و ساربٌ بالنهار ،
لا يشغله جهر من جهر ن سمعه لصوت من أسرَّ ، بل هي عنده كلها كصوتٍ واحد ،
كما أن الخلق جميعهم خلقهم و بعثهم عنده بمنزلة واحدة . {ما خلْقُكُمْ و لا
بعْثُكُمْ إلا كنفسٍ واحدة}
أحاط بصره بجميع المرئيات : فيرى دبيب
النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء ، و يرى جناح البعوضة
في ظلمة الليل ، يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور.
له الخلق و الأمر ،
و له الملك و الحمد ، و له الدنيا و الآخرة ، و له النعمة و الفضل ، و له
الثناء الحسن ، له الملك كله ، و له الحمد كله ، و بيده الخير كله .
لا
ينام ، و لا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط و يرفعه ، يُرفع إليه عمل الليل
قبل النهار ، و عمل النهار قبل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت
سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ....سبحانه .
يمينه ملأى لا تغيضها نفقة ، سحَّاء الليل و النهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات و الأرض ، فإنه لم يُغْضِ ما في يمينه .
لو
أن أشجار الأرض كلها من حين وجدت إلى أن تنقضي الدنيا أقلام ، و البحر
يمده من بعده سبعة بحار ، فكتب بتلك الأقلام ، و ذلك المداد ، لفنيت
الأقلام و نفد المداد ، و لم تنفد كلمات الله ... و كيف تنفد و هي لا بداية
لها و لا نهاية .
أول بلا ابتداء ، و آخرٌ بلا انتهاء ، لا يفنى و لا
يبيد ، و لا يكون إلا ما يريد ، لا تبلغه الأوهام ، و لا تدركه الأفهام ، و
لا يشبه الأنام ، حي لا يموت ، قيوم لا ينام ، خالق بلا حاجة ، رازقٌ بلا
مؤنه ، مميت بلا مخالفة ، باعثٌ بلا مشقة ، ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه ،
لميزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته ، و كما كان بصفاته أزلياً ،
كذلك لا يزال عليها أبدياً ، ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق ، و لا
بإحداث البرية استفاد اسم الباري ، له معنى الربوبية و لا مربوب ، و معنى
الخالق و لا مخلوق ، و كما أنه محي الموتى بعدما أحيا استحق اسم هذا الإسم
قبل إحيائهم ، كذلك استحق اسم لخالق قبل إنشائهم ذلك بأن على كل شيءٍ قدير ،
و كل شيءٍ إليه فقير ، ليس كمثله شيء و هو السميع البصير .
فإذا عاش
العبد مع أسماء الله تعالى و صفاته هكذا ، عظمت محبته لربه عز و جل ، و لم
يؤثر هلى رضاه شيئاً أبدا ، و إن مزق أو حرق أو قتل أو عذب في سبيل ذلك بكل
ألوان العذاب .
(6) مشاهدة نعمه لظاهرة و الباطنة
إن من يتفكر
في عظيم إحسان الله له ، و ما حباه به ن النعم الظاهرة و الباطنة لا بد أن
يحب الله عز و جل حباً عظيماً ، لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها ،
فكيف بمن أنشأها من العدم و صورها في الأرحام ، و غذاها و رعاها في تلك
الظلمات ، و يسر لها الخروج إلى هذه الحياة ، ثم توالت نعمه سبحانه عليها ،
و أعظمها نعمة الإسلام التي حرم الكثيرون و أنعم بها عليك ، ثم وفقك
لطاعته و للأعمال الصلحة , ثم ينعم بعد ذلك عليك في الآخرة بجنته ... كل
هذه النعم و لا يستحق منك أن تحبه حباً عظيماً صادقاً لا تحبه أحداً من
العالمين !!
أروح و قد ختمت على فؤادي بحـبك أن يحل به سـواكا
فلو أني استطعت غضضت طرفي فلـم أنظـر به حتى أراكـا
أحبك لا بـبعضي بل بكـلي و إن لم يُبْقِ حبك لي حراكا
(7) انكسار القلب بين يدي الرب
إن
لذل القلب و انكساره بين يدي الله عز و جل تأثير عجيب في المحبة ، و يفتح
أمام العبد أبواباً عظيمة من الخير ، و يوصله إليها من أقرب طريق ، حتى أنه
يسبق غيره و هو نائم على فراشه .
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً و تجي في الأول
و قيل لبعض الصالحين : أيسجد القلب ؟ قال : نعم يسجد سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.
و قد عرف بعض السلف العبادة بأنها : غاية الحب مع غاية الذل .
قل ابن القيم :
و عبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قسمان
( الخلوة بالله وقت النزول الإلهي
و
الخلوة بالله سبحانه وقت نزوله في الثلث الأخير من الليل لمناجاته و تلاوة
كلامه ، و الوقوف بين يديه و التأدب بأدب العبودية ، من أعظم الأسباب التي
تورث القلب محبة الله عز و جل .
قال تعالى : { تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً و طمعا }
و قال عز و جل :{إنهم كانوا قبل ذلك محسنين ، كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون ، و بالأسحار هم يستغفرون}
و قال سبحانه :{ و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا}
و
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ((
ينزل ربنا تبارك و تعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل
الآخر فيقول : من يدعوني فأستجيب له ، من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني
فأغفر له ))
و قد روى الثقات عن خير الملا بـأنـه عز و جـل و عـلا
في ثلث اللـيل الأخيـر يـنزل يقـول هـل من تائبٍ فيقبل
هل نـم مسيء طالب للمغفرة يجـد كريماً قابـلاً للمعذرة
يمـن بالخـيرات و الفضائـل و يستر العيب و يعطي المسائل
(9) مجالسة المحبين الصادقين
ومجالسة المحبين الصادقين والتعرف على أحوالهم و الاقتداء بهم يزيد العبد محبة لله عز و جل و شوقاً إليه و إلى جنته.
قال
تعالى :{و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشِي يريدون وجهه و
لا تَعْدُ عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا و لا تطع من أغفلنا قلبه عن
ذكرنا و اتبع هواه و كان أمره فُرُطا }
و عن أبي موسى الأشعري رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : (( إنما مثل الجليس الصالح و جليس
السوء : كحامل المسك و نافخ الكير ، فحامل المسك إما أن يُحْذِيك ، و إما
أن تجد منه ريحاً طيبة . و نافخ الكير إما أن يحرق ثيابك و إما أن تجد منه
ريحاً منتنة ))
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : جاء رجلٌ إلى رسول
الله صلى الله عليه و سلم فقال : يا رسول الله ، كيف تقول في رجلٍ أحب
قوماً و لم يلحق بهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : (( المرء مع
من أحب ))
(10) البعد عن كل ما يحول بين لقلب و بين الله
و من
أسباب زيادة محبة الله تعالى في قلب العبد : البعد عن كل ما يحول بينه و
بين الله عز و جل ، و أعظمها الذنوب و الآثام ، فإنها تضعف محبة الله في
قلب العبد .
قال تعالى : { كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون }
و قال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله }
تعصي الإله و أنت تظهر حبه هذا محالٌ في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
و
كذلك البعد عن مخالطة من لا خي فيه من الناس ، و عدم الإكثار من المباحات ،
و فضول الطعام و الشراب النظر و الكلام ... و غيرها كثير مما يحول بين
القلب و بين الله.
قال سبحانه : { و اعلموا أن الله يحول بين المرء و قلبه }